يبدو أنها سنة أخرى جديدة في عالم قديم اعتاد أن يسبح في الدماء، ففي إسرائيل حيث التنافس محتدم على السلطة أطلق السياسيون أحد أشرس العمليات العسكرية على الأراضي الفلسطينية منذ عقود عديدة، مبررة قصفها العنيف على غزة بانتهاك "حماس" لاتفاق هش ومؤقت لوقف إطلاق النار وُقع في وقت سابق بين الجانبين. ومع أنه يحق للحكومة الإسرائيلية عدم التساهل مع الصواريخ التي تطلقها "حماس" على المدنيين في بلداتها الجنوبية، فإن توقيت الحملة العسكرية الإسرائيلية تحكمه دوافع سياسية أكثر من أي شيء آخر. فمعروف أن إيهود باراك، زعيم حزب "العمل" ووزير الدفاع الإسرائيلي وإلى جانبه تسيبي ليفني، وزيرة الخارجية من حزب الوسط، كاديما، يتنافسان على منصب رئيس الحكومة الذي ستفرزه انتخابات شهر فبراير المقبل، وفي هذا الإطار يعتقد الاثنان أن إبداء "الصلابة" في التعامل مع "حماس" سيساعدهما على انتزاع أوراق مهمة من الجناح اليميني في حزب "الليكود" بزعامة بنيامين نتنياهو الذي تصدر استطلاعات الرأي الإسرائيلية طيلة الفترة الأخيرة. وفي الوقت نفسه يسعى إيهود أولمرت، رئيس وزراء إسرائيل المستقيل، الذي تطارده تهم الفساد، إلى تلميع صورته وترميم بعض من سمعته المنهارة قبل أسابيع فقط على مغادرته السلطة. وبالإضافة إلى عامل الوقت الضاغط على الساسة في إسرائيل، هناك أيضاً قرب تنصيب الرئيس المنتخب باراك أوباما وتسلمه رسمياً مقاليد الأمور في البيت الأبيض، فطالما أن الرئيس بوش مازال في المكتب البيضاوي، تستطيع إسرائيل الاعتماد على إدارة أميركية لم تكتفِ بدعم الدولة العبرية، بل ساندتها بشكل أعمى ومن دون أدنى تفكير. وبما أن أوباما قد لا يكون على نفس درجة الاستعداد لمنح إسرائيل شيكاً على بياض وتبرير كافة تصرفاتها، سارعت تل أبيب إلى استغلال التوقيت المناسب الذي يسبق كلاً من الانتخابات الإسرائيلية والتنصيب الرسمي لباراك أوباما على رأس الولايات المتحدة. وبالطبع، فإنه من وجهة نظر عسكرية بحتة "ستنتصر" إسرائيل على "حماس" التي رغم كلماتها الرنانة ونبرتها العالية تظل بالمقارنة مع قوة النيران الإسرائيلية ضعيفة، وأسلحتها في المعركة من عمليات انتحارية، أو صواريخ محلية الصنع، هي أيضاً أسلحة الطرف الضعيف، كما أن إطلاق "حماس" لآلاف الصواريخ منذ العام 2001 على إسرائيل، لم يوقع سوى بضعة قتلى إسرائيليين. لكن، في المقابل يُعتبر الجيش الإسرائيلي من أحدث الجيوش وأكثرها فاعلية في العالم بفضل الدعم الأميركي الذي يُقدر سنوياً بثلاثة مليارات دولار، حيث تستطيع إسرائيل وبسهولة خنق قطاع غزة بسكانه المليون ونصف مليون نسمة. وبهذه الآلة العسكرية المتقدمة تصاعد عدد القتلى الفلسيطنيين من 180 شخصاً في اليوم الأول من القصف إلى 390 قتيلاً بعد ثلاثة أيام على بدء الحملة، ويتزايد الرقم يوماً بعد يوم، لكن في الوقت الذي لا نشك في قدرة إسرائيل العسكرية على تدمير قطاع غزة، فإنه لا يوجد ما يدفعنا أيضاً إلى الاعتقاد بأن هذا الهجوم سيضمن الأمن لإسرائيل. وحتى لو استطاعت إسرائيل تدمير البنية التحتية لحركة "حماس" في قطاع غزة وضرب قدراتها العسكرية، فإن ذلك لن يؤدي إلى سوى وقف مؤقت لإطلاق الصواريخ لأنها سرعان ما ستستأنف عملياتها ضد إسرائيل لتبقى الحلقة المفرغة على حالها، بل لربما ساهمت الهجمة الإسرائيلية على قطاع غزة في تقوية "حماس" على حساب غريمتها العلمانية "فتح. والأكثر من ذلك، على إسرائيل أن تعرف بأن إلقاء قنابل تزن أطناناً من المتفجرات على مناطق سكنية عالية الكثافة في غزة هي الطريقة الأمثل لدفع السكان إلى الالتفاف حول "حماس" وإلى مزيد من الراديكالية، والمفارقة أن تلك الراديكالية نفسها لدى الإسرئيليين يعول عليها إيهود باراك وتسيبي ليفني وإيهود أولمرت لتعزيز حظوظهم في الانتخابات المقبلة وكسب بضعة أصوات برلمانية. والواقع أن إسرائيل لا تملك مخرجاً سياسياً واضحاً من عمليتها العسكرية في قطاع غزة، فليس هناك طريق ملموس ينقلها من القصف إلى سلام مستدام، كما أن الدمار الناجم عن هذا التصعيد لن يقتصر على الإسرائيليين والفلسطينيين، بل سيؤجج الغضب والمظاهرات كما نرى حالياً على امتداد العالم العربي، ناهيك عما قد تتسبب فيه الأزمة الراهنة من زعزعة الاستقرار في المنطقة. وإذا كان البعض يعتقد أننا في الولايات المتحدة غير معنيين بما يجري في قطاع غزة فلابد أنهم يخدعون أنفسهم، لأن الغضب العربي والإسلامي بشأن فلسطين يستمر في تغذية المشاعر المناهضة للغرب وللولايات المتحدة على وجه الخصوص، ويزيد من مخاطر الإرهاب العالمي. لذا فإن الوقت قد حان كي تستيقظ الولايات المتحدة من سباتها وتنخرط بجدية كاملة في عملية السلام بالشرق الأوسط، فهي باعتبارها الداعم الأول لإسرائيل وراعيها المالي تستطيع وحدها الضغط عليها لتبني الخيارات الصعبة والضرورية لأمنها على المدى البعيد، ولأمن المنطقة أيضاً. ففي العام 2001 كادت مباحثات "طابا" تسفر عن تسوية نهائية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية قبل أن تنهار المفاواضات عقب انتخاب زعيم الليكود، أرييل شارون، رئيساً للوزراء في 6 فبراير 2001، وفيما رفض شارون الالتقاء بياسر عرفات لم يبدِ الرئيس الأميركي جورج بوش المنتخب حديثاً أي اهتمام بالموضوع، أو رغبة في الضغط باتجاه السلام. واليوم وبعد ثماني سنوات نجد أنفسنا أمام وضع مشابه، حيث تتهيأ إسرائيل لانتخابات قادمة وينتظر أوباما أداء قسمه كرئيس جديد لأميركا يتعين عليه ما إن تطأ قدماه البيت الأبيض إعادة الفلسطينيين والإسرائيليين إلى طاولة المفاوضات والبدء باتفاقات "طابا" كنقطة انطلاق. روزا بروكس أستاذة الإعلام بجامعة جورجتاون الأميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"